حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك
شهرمان
ووفي الليلة الأولى بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان
في قديم الزمان ملك يسمى شهرمان صاحب عسكر وخدم وأعوان إلا أنه كبر سنه ورق عظمه لم
يرزق بولد فتفكر في نفسه وحزن وقلق وشكا ذلك لبعض وزرائه وقال: إني أخاف إذا مت أن
يضيع الملك لأنه ليس لي ولد يتولاه بعدي، فقال له الوزير: لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً
فتوكل على الله أيها الملك وتوضأ وصل ركعتين ثم جامع زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك، فجامع
زوجته فحملت في تلك الساعة ولما كملت أشهرها وضعت ولداً ذكراً كانه البدر السافر في
الليل العاكر فسماه قمر الزمان وفرح غاية الفرح وزينوا المدينة سبعة أيام ودقت الطبول
وأقبلت العشائر وحملته المراضع والدايات وتربى في العز والدلال حتى صار له من العمر
خمس عشر سنة وكان فائقاً في الحسن والجمال والقد والإعتدال وكان أبوه يحبه ولا يقدر
أن يفارقه ليلاً ولا نهاراً فشكا الملك شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده وقال: أيها
الوزير لإني خائف على ولدي قمر الزمان من طوارق الدهر والحدثان وأريد أن أزوجه في حياتي.
فقال له الوزير: اعلم أيها الملك إن الزواج من مكارم الأخلاق ولا بأس إن تزوج ولدك
في حياتك فعند ذلك قال الملك شهرمان: علي بولدي قمر الزمان فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض
حياء من أبيه فقال له أبوه: يا قمر الزمان اعلم أني اريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي،
فقال له: اعلم يا أبي أنني ليس لي في الزواج وليست نفسي تميل إلى النساء لأني وجدت
في مكرهن كتباً بالروايات وبكيدهن وردت الآيات وقال الشاعر:
ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد ووقفت على الباب وإذا بالمنادي ينادي
ويقول: كل من عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره فله جميع ما طلب من الأموال ومن كان
عنده وانكره فإنه يشنق على باب داره وينهب ماله ويهدر دمه، وكان الأسعد قد اخبر بستان
بنت بهرام بجميع ما جرى له فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب فدخلت عليه وأخبرته بالخبر
فخرج وتوجه إلى دار الوزير فلما رأى الوزير قال: والله إن هذا هو أخي الأمجد وعرفه
فألقى نفيه عليه وتعانقا واحتاطت بهما المماليك وغشي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما
أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته فأمر السلطان بنهب
بهرام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
نتيجة بحث الصور عن حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان فإن تسألوني بالنساء فإنـنـي خبير بأحوال النسـاء طـيب
إذا شاب رأس
المرء وقل ماله فليس له في ودهن نصـيب
و لما فرغ من شعره قال: يا أبي إن الزواج شيء لا أفعله أبداً، فلما سمع
السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام اغتم غماً شديداً إلى عدم مطاوعة ولده قمر الزمان
له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك
شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتم على عدم مطاوعة
ولده قمر الزمان له ومن محبته له لم يكرر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه بل أقبل عليه
وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد في كل يوم حسناً
وجمالاً وظرفاً ودلالاً فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة
والملاحة وتهتكت في حسنه الوري وصار فتنة للعشاق وروضة للمشتاق عذب الكلام يخجل في
وجهه بدر التمام صاحب قد واعتدال وظرف ودلال كانه غصن بان أو قضيب خيزران ينوب خده
عن شقائق النعمان وقده عن غصن البان ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
بدا فقالوا تـبـارك
الـلـه جل الذي صاغـه وسـواه
مليك كل الملاح قـاطـبة فكلهم أصبحـوا رعـاياه
في ريقه شـهـدة مـذوبة وانعقد الدار فـي ثـنـاياه
مكملاً بالجمال مـنـفـرداً كل الورى في جماله تاهوا
قد كتب الحسن فوق
وجنته أشهد أنلا ملـيح إلا هـو
فلما تكاملت سنة أخرى لقمر الزمان ابن الملك شهرمان دعاه والده إليه وقال
له: يا ولدي أما تسمع مني؟ فوقع قمر الزمان على الأرض بين يدي أبيه هيبة واستحى منه
وقال له: يا أبي كيف لا أسمع منك وقد أمرني الله بطاعتك وعدم مخالفتك، فقال له الملك
شهرمان: اعلم يا ولدي إني أريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي وأسلطنك في مملكتي قبل مماتي
فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه وقال: يا أبي هذا شيء لا أفعله أبداً
ولو سقيت كأس الردى وانا أعلم أن الله فرض علي طاعتك فبحق الله عليك لا تكلفني أمر
الزواج ولا تظن أني اتزوج طول عمري لأنني قرأت في كتب المتقدمين والمتأخرين وعرفت ما
جرى لهم من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهي وما يحدث عنهن من
الدواهي وما أحسن قول الشاعر:
إن النساء وإن
ادعين العـفة رمم تقلبها النسور الـحـوم
في الليل عندك
سرها وحديثها وغداً لغيرك ساقها والمعصم
كالخان تسكنه
وتصبح راحلاً فيحل بعدك فيه من لا تعلـم
فلما سمع شهرمان من ولده قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام لم
يرد عليه جواباً من فرط محبته وزاد في إنعامه وإكرامه وانفض ذلك المجلس من تلك الساعة،
وبعد انفضاض المجلس طلب شهرمان وزيره واختلى به وقال له: أيها الوزير. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك
شهرمان قال لوزيره: قل لي مالذي أفعله في قضية ولدي قمر الزمان؟ فإني استشرتك في زواجه
قبل أن أسلطنه فأشرت علي بذلك وأشرت علي أيضاً أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له فخالفني
فأشر علي الآن بما تراه حسناً؟ فقال الوزير: الذي أشير به عليك الان أيها الملك أن
تصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها في أمر الزواج فلا تكلمه سراً ولكن حدثه
في يوم حكومة يكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر واقفين فإذا اجتمع هؤلاء
فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطبه في أمر الزواج بحضرة
جميع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الولة والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحي
منهم وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم.
فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام فرح فرحاً شديداً واستصوب رأي
الوزير في ذلك وخلع عليه خلعة سنية فصبر الملك شهرمان على ولده قمر الزمان سنة كاملة
وكلما مضى عليه يوماً من الأيام يزداد حسناً وجمالاً وبهجةً وكمالاً حتى بلغ من العمر
قريباً عشرين عاماً وألبسه الله حلل الجمال وتوجه بتاج الكمال وأشرقت خدوده بالإحمرار
وبياض غرته حكى القمر الزاهر وسواد شعره كأنه الليل العاكر وخصره أرق من خيط هميان
وردفه أثقل من الكثبان تهيج البلابل على أعطافه ويشتكي خصره من ثقل أردافه ومحاسنه
حبرت الورى كما قال فيه بعض الشعراء:
وبأسهم قد راشها من سـحـره
وبلين عطفه ومرهف
لحـظـه وبياض غرته وأسود شـعـره
وبحاجب حجب الـكـرى
عـن صبه وسطا عليه بنهيه وبأمـره
وبـورد خـديه وآس
عــذاره وعقيق مبسمه ولؤلـؤ ثـغـره
وبطيب نكهتـه وسـال
جـرى في فيه يزري بالرحيق وعصره
وبردفه المرتج في
حـركـاتـه وسكونه وبرقة في خـصـره
وبجود راحته وصدق
لـسـانـه وبطيب عنصره وعالي قـدره
ما المسك إلا من
فضالة خـالـه والطيب يروي ريحه عن شعره
وكذلك الشمس المـنـيرة
دونـه ورأى الهلال قلامة من ظفـره
ثم إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
سلا خاطري عـن زينـب ونـوار
بوردة خـد فـوق آس عـــذار
واصبحت بالظبى المقرمط مغرمـاً
ولا أرى لي في عشق ذات سـوارنتيجة بحث الصور عن حكاية الملك قمر الزمان
ابن الملك شهرمان
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـاً
خلاف أنيسي فـي قـرارة داري
فيا لائمي في هجر هـنـد وزينـب
وقد لاح عذري كالمصباح المساري
أتـرضـى بـأن أمـسـي أسـيرة
محصـنة أو مـن وراء جـداري
دهرأ وفاض الدمع من أجفاني
ونذرت إن عاد الزمان يلمـنـا
لا عدت أذكر فرقة بلسـانـي
هجم السرور علي حتـى أنـه
من فرط ما سرني أبكـانـي
يا عين صار الدمـع سـجـية
تبكين في فرح وفي أحـزان
فلما فرغت السيدة بدور من شعرها قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط
واتكأت بقوتها على الغل الحديد فقطعته من رقبتها وقطعت السلاسل وخرجت من خلف الستارة
ورمت روحها على قمر الزمان وقبلته في فمه مثل زق الحمام وعانقته م شدة ما بها من الغرام
وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام وقد من الله علينا بجمع شملنا، ثم حمدت الله
وشكرته على جمع شملها بعد اليأس، فلما رآها الخادم على تلك الحالة ذهب يجري حتى وصل
إلى الملك الغيور فقبل الأرض بين يديه وقال له: يا مولاي اعلم أن هذا المنجم أعلم المنجمين
كلهم فإنه داوى ابنتك وهو واقف خلف الستارة ولم يدخل عليها، فقال الملك للخادم: أصحيح
هذا الخبر؟ فقال الخادم يا سيدي قم وانظر كيف قطعت السلاسل وخرجت للمنجك تقبله وتعانقه،
فعند ذلك قام الملك الغيور ودخل على ابنته فلما رأته نهضت قائمة وغطت رأسها وأنشدت
هذين البيتين:
لا أحب السواك من أجل أني
إن ذكرت السواك قلت سواكا
وأحب الأراك من أجل أنـي
إن ذكرت الأراك قلت أراك
لما كان لي في العشق قلب مـتـيم
هذا ما كان من قمر الزمان واما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك
الغيور فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده ورأت سروالها محلولاً
فافتقدت العقد فوجدتها محلولة والفص معدوماً فقالت في نفسها يا للعجب أين معشوقي كأنه
أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه فيا ترى أين راح ولكن لا بد له من أمر
عجيب اقتضى رواحه فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة فلعن الله الفص ولعن ساعته ثم إن السيدة
بدور تفكرت وقالت في نفسها إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا في ولكن
لا بد من الحيلة.
ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان ولبست عمامة كعمامته وضربت لها لثاماً وحطت
في محفتها جارية وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان فقدموا لها الجواد فركبت وأمرت
بشد الأحمال فشدوا الأحمال وسافروا وأخفت أمرها لأنها كانت تشبه قمر الزمان فما شك
أحد أنها قمر الزمان بعينه وما زالت مسافرة هي وأتباعها أياماً وليالي حتى أشرفت على
مدينة مطلة على البحر المالح فنزلت بظاهرها وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الإستراحة
ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها هذه مدينة الآبنوس وملكها الملك أرمانوس وله بنت اسمها
حياة النفوس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الآبنوس لأحل الإستراحة أرسل الملك أرمانوس رسولاً
من عنده يكشف له خبر الملك النازل بظاهر المدينة فلما وصل إليهم الرسول سألهم فأخبروه
بأن هذا ابن الملك تائه عن الطريق وهو قاصد جزائر خالدات الملك شهرمان فعاد الرسول
إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام نزل هو وأرباب
دولته إلى مقابلته فلما قدم على الخيام ترجلت السيدة بدور وترجل الملك أرمانوس وسلما
على بعضهما وأخذها ودخل بها إلى مدينته وطلع بها إلى قصره وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة
وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك
أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر
عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها.
والسر عند خيا الناس مكتـوم
فلما فرغت من شعرها قالت يا أختي إن صدور الأحرار قبور الأسرار وأنا لا
أفشي لك سراً ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قريب الآذان ثم قامت حياة النفوس وأخذت
دجاجة وذبحتها وتلطخت بدمها وقلعت سراويله وصرخت فدخل لها أهلها وزغردت الجواري ودخلت
عليها أمها وسألتها عن حالها وأقامت عندها إلى المساء، وأما الملكة بدور فإنها لما
أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على
كرسي المملكة وحكمت بين الناس، فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه
بافتضاض بكارة ابنته ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح وأولم اللائم ولم يزالوا على تلك
الحالة مدة من الزمان، هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان فإنه
بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدم صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجيء
ولده فتحير عقله ولم ينم تلك الليلة وقلق غاية القلق وزاد وجده واحترق وما صدق أن الفجر
انشق حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجيء فأحس بقلبه بالفراق والتهب على ولده
من الإشفاق ثم بكى حتى بل ثيابه وأنشد من قلب مصدوع:
مازلت معترضاً على أهل الهوى
حتى بليت بحـلـوه وبـمـره
وشربت كأس مراره متجـرعـاً
وذللت فيه لعـبـده ولـحـره
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا
والآن قد أوفى الزمان بـنـذره
لا تعذلوا المحزون في أحزانه
فلقد جفاه الوجد من أشجانـه
وغرامه ينبيك عن نـيرانـه
يا سعد من لمتيم حلف الضنى
أن لا يزيل الدمع من أجفانه
يبدي الغرام لفقد بدر زاهـر
بضيائه يزهو على أقرانـه
ولقد سقاه الموت كأساً مترعاً
يوم الرحيل فشط عن أوطانه
فلما فرغ من إنشاده رحل بجيوشه إلى مدينته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن الملك شهرمان أيقن بهلاك ولده وعلم أنه عدا عليه وافترسه وحش وإما قاطع طريق ثم
نادى في جزائر خالدات أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان وعمل له بيتاً
وسماه بيت الأحزان وسار كل يوم خميس واثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيته وبقية
الجمعة يدخل بيت الأحزان وينعي ولده ويرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
فيوم الأماني يوم قربكم منـي
ويوم امنايا يوم إعراضكم عني
إذا بت مرعوباً أهدد بالـردى
فوصلكم عندي ألذ من الأمـن
ومن ذلك قوله:
نفس الفداء لظاعنين رحيلـه
أنكى وأفسد في القلوب وعاثا
فليقض عدته السرور فإننـي
طلقت بعدهم النعيم ثـلاثـا
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائران يبكيان على صاحبهما ثم إن
قمر الزمان رأى الطائرين حفرا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارا إلى الجو وغابا
ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل فنزلا به على قبر المقتول وبركا على القاتل حتى
قتلاه وشقا جوفه وأخرجا أمعائه وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزقا
جلده وأخرجا ما في جوفه وفرقا إلى أماكن متفرقة هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجب
فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلا فيه الطائر فوجد فيه شيئاً يلمع فدنا منه فوجده
حوصلة الطائر فأخذها وفتحها فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته. فلما رآه
وعرفه وقع على الأرض مغشياً عليه من فرحه فلما أفاق قال في نفسه هذا علامة الخير وبشارة
الإجتماع ثم تامله ومر به على عينه وربطه على ذراعه واستبشر بالخير وقام لينظر الخولي
ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأت فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح.
ثم أفاق إلى شغله وشد وسطه بحبل من الليف وأخذ الفاس والقفة وشق في البستان
فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفاس في جذرها فطنت الضربة فكشف التراب فوجده طابقاً ففتحه،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد باباً فنزل فيه فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود
وعاد وتلك القاعة واسعة وهي مملوءة ذهباً أحمر فقال في نفسه لقد ذهب التعب وجاء الفرح
والسرور، ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان ورد الطابق كما كان، ورجع
إلى البستان وإلى تحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فجاء الخولي
وقال يا ولدي أبشر برجوعك إلى الأوطان فإن التجار تجهزوا للسفر والمراكب بعد ثلاثة
أيام مسافرة إلى مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلت إليها تسافر في البر ستة أشهر
حتى تصل جزائر خالدات، والملك شهرمان ففرح قمر الزمان بذلك ثم قبل يد الخولي وقال له
يا والدي كما بشرتني فأنا أبشرك بشارة وأخبره بأمر القاعة ففرح الخولي وقال يا ولدي
أنا في هذا البستان صار لي مدة ثمانون عاماً لم أجد شيء وأنت لك عندي دون السنة ووجدت
هذا الكنز فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك واجتماع شملك بمن
تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من المقاسمة بيني وبينك، ثم أخذ الخولي ودخل في تلك القاعة
وأراه الذهب وكان في عشرين خابية فأخذ عشرة والخولي عشرة.
ف
وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها، فلما افاقت قالت في
نفسها إن هذا الفص كان سبباً في فراق محبوبي قمر الزمان ولكنه بشير الخير ثم أعلمت
السيدة حياة النفوس بأن وجود بشارة الإجتماع، فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة
وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قببل الأرض بين يديها فقالت: أين خليتم صاحب هذا الزيتون؟
فقال: يا ملك الزمان تركناه في بلاد المجوس وهو خولي بستان، فقالت له: إن لم تأت به
فلا تعلم ما يجري عليك وعلى مركبك من الضرر، ثم أمرت بالختم على مخازن التجار وقالت
لهم إن صاحب هذا الزيتونغريمي ولي عليه دين وإن لم يأت لأقتلنكم جميعاً وأنهب تجارتكم،
فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة وقالوا خلصنا من هذا الغاشم،
فنزل الريس في المركب وحل قلوعها وكتب الله له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل وطلع
إلى البستان وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل وتذكر محبوبته فقعد يبكي على ما جرى
له وهو في البستان ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان ففتح الباب وخرج إليه فحمله
البحرية ونزلوا به إلى المركب وحلوا القلوع فيافروا وساروا ولم يزالوا سائرين أياماً
وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما موجب ذلك فسألهم عن السبب. فقالوا له: أنت غريم الملك
صاحب جزائر الآبنوس صهر الملك أرمانوس وقد سرقت ماله يا منجوس، فقال: والله عمري ما
دخلت هذه البلاد ولا أعرفها، ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس وطلعوا
به على السيدة بدور، فلما رأته عرفته قالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الجمام وأفرجت
عن التجار وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار ودخلت على السيدة حياة النفوس
واعلمتها بذلك، وقالت لها اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي وأعمل عملاً يؤرخ ويقرأ بعدنا
على الملوك والرعايا وقد أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الخمام فدخلوا به وألبسوه لبس
الملوك ولما طلع قمر الزمان من الحمام كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران وردت
روحه إليه ودخل القصر. فلما نظرته صبرت قلبها حتى يتم مرادها وأنعمت عليه بمماليك وخدم
وجمال وبغال وأعطته خزانة مال ولم تزل ترقي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته
خازندار وسلمت إليه الأموال وأقبلت عليه وقربته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته فأحبوه
جميعهم وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات وقمر الزمان لا يعرف سبب تعظيمها
له ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرم ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبه وكذلك أجبته الأمراء
والخواً والعوام وصاروا يحلفون بحياته، كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور
له ويقول في نفسه والله إن هذه المحبة لا بد لها من سبب وربما يكون هذا الملك إنما
يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد فلا بد أن أستأذنه وأسافر من بلاده.
له شغف تقديم الصغار
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرت خدوده حنى صارت كالضرام وقال:
لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام بل أعيش فقيراً من المال غنياً بالمروءة
والكمال، فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشيء عن التيه والدلال ولله در
من قال:
ذاكرته عهد الوصال فقال لي
كم ذا تطيل من الكلام المؤلم
فأريته الدينار أنـشـد قـائلاً
أين المفر من القضاء المبرم
ف
لما دعته إلى وصالي
عـطـفة من معتطف بتعطف متواصي
وسقت قساوة قلبها
من لينـهـا فأجاب بعد ممنع وتعـاصـي
خشي العواذل أن
تـراه إذا بـدا قاسى بعدة آمـن الإرهـاص
شكت القصور رواد
فاقد حملت أقدامه في المشي حمـل قـلاً
متقل الصمصام من
ألحـاظـه ومن الدجى مـتـدرعـاً
بـلاً
وشذاء بشرني بسعـد
قـدومـه ففرت مثل الطير من أقفاصي
وفرشت حدي في الطريق
لنعله فشفي بأثمد تربها أرمـاصـي
وعقدت ألوية الوصال
معانـقـاً وفككت عقدة حظي المتعاصي
وأقمت أفراحاً أجاب
نـداءهـا طرب صفاً عن شائب الأنغاص
والبدر نقط بالنجوم
الثغـر مـن حبب على وجه الطلا رقـاص
وعكفت في محراب لذاتها
على ما من تعاطيه يتوب العاصـي
قسماً بآيات الضحى
من وجهـه إلى أنس فيه سورة الإخـلاص
ثم إن قمر الزمان لما صار سلطاناً أزال المكوس وأطلق من في الحبوس وسار
فيهم سيرة حميدة وأقام مع زوجته في هناء وسرور ووفاء وحبور يبيت عند كل واحدة منهما
ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان وقد انجلت عنه الهموم والأحزان ونسي أباه الملك
شهرمان وما كان له من عز وسلطان حتى رزقه الله من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين
النيرين أكبرهما من الملكة بدور وكان اسمه الملك الأمجد وو أصغرهما من الملكة حياة
النفوس وكان اسمه الملك الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربيا في العز والدلال
والأدب والكمال وتعلما العلم والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال ونهاية الحسن
والجمال وافتتن بهما النساء والجال وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عاماً وهما متلازمان
فيأكلان ويشربان سواء ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات ولا وقتاً من الأوقات
وجميع الناس تحسدهما على ذلك.
و لما بلغا مبلغ الرجال واتصفا بالكمال صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على
التعاقب في مجلس الحكم فيحكم كل واحد منهما بين الناس، واتفق بالقدر المبرم أن والقضاء
المحتم أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه
وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه فصارت
كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرتها وتقبله وتضمه إلى صدرها وإذا رأت ذلك أمه تظن
أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادهن، وتمكن العشق من قلوب المرأتين وافتتنا بالولدين
فصارت كل واحدة منهن إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها وتود انه لا يفارقها،
وطال عليهما المطال ولم يجدا سبيلاً إلى الوصال والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضع
الحكم كل واحد منهما يوماً على عادته. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن الملك توجه إلى الصيد والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم كل واحد يوماً
على عادتهما فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى وولى وعزل
وأعطى ومنع فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوباً تستعطفه فيه وتوضح له أنها
متعلقة به ومتعشقة فيه وتكشف له الغطاء وتعلمه أنها تريد وصاله فأخت ورقة وكتبت فيها
هذه السجعات: من المسكينة العاشقة الحزينة المفارقة التي ضاع بحبك شبابها وطال فيك
عذابها ولو وصفت لك طول الأسف وما أقاسيه من اللهف وما بقلبي من الشغف وما أنا فيه
من البكاء والأنيني وتقطع القلب الحزين وتوالي الغموم وتتابع الهموم وما أجده من الفراق
والكآبة والإحتراق أطال شرحه في الكتاب وعجزت عن حصره الالحساب وقد ضاقت علي الأرض
والسماء ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء فقد أشرفت على الموت وكابدت أهوال القوت وزاد
بي الإحتراق وألم الهجر والفراق ولو وصفت ما عندي من الأشواق لفاقت عنه الوراق ثم بعد
ذلك كتبت هذين البيتين:
لو كنت أشرح ما ألقها
من حـرق ومن سقام ومن وجد ومن قـلـق
لم يبق في الأرض قرطاس
ولا قلم ولا مداد ولاشـيء مـن الـورق
ثم إن الملكة حياة النفوس لفت تلك الورقة في رقعة من غالي الحرير مضمخة
بالمسك والعنبر ووضعت معها جدائل شعرها التي تستغرق الأموال بسعرها ثم لفتها وأعطتها
للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أنها أعطت ورقة المواصلة للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد فسار ذلك الخادم
وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب وعلام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء فلما دخل الخادم
على الملك الأمجد قبل الأرض بين يديه وناوله المنديل وبلغه الرسالة فتناول الملك الأمجد
المنديل من الخادم وفتحه فرأى الورقة ففتحها وقرأها فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه
في عينها الخيانة وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها فغضب غضباً شديداً وذم النساء
على فعلهن وقال: لعن الله النساء الخائنات الناقصات عقلاً وديناً. ثم إنه جرد سيفه
وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء أتحمل الرسالة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك والله
أنه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة ثم ضربه بالسيف
في عنقه فعزل رأسه عن جثته وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه ثم دخل على أمه وأعلمها
بما جرى وسبها وشتمها وقال: كلكن أنجس من بعضكن والله العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب
في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد لأدخلن وأضربن عنقها كما ضربت عنق خادمها
ثم إنه خرج من عند الملكة بدور وهو في غاية الغيظ.
فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها سبته ودعن عليه
وأضمرت له المكر فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفاً من الغيظ والقهر والفكر ولم
يهنأ له أكل ولا منام فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد وجلس في مجلس أبيه الملك
قمر الزمان ليحكم بين الناس وأصبحت أمه ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله
للخادم ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم حكم وعدل وولى وعزل وأمر ونهى
وأعطى ووهب ولم يزل جالساً في مجلس الحكم إلى قرب العصر ثم إن الملكة بدور أم الملك
الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات وأظهرتها على ما في قلبها وأخذت ورقة لتكتب
فيها مراسلة للملك الأسعد ابن زوجها وتشكو إليه من كثرة محبتها ووجدها به. فكتبت له
هذه السجعات: ممت تلفت وجداً وشوقاً، إلى أحسن الناس خلق وخلقاً المعجب بجماله التائه
التائه بدلاله المعرض عن طلب وصاله الزاهد في القرب ممن خضع وذل إلى من جفا ومل الملك
الأسعد صاحب الحسن الفائق والجمال الرائق والوجه الأقمر والجبين الأزهر والضياء الأبهر
هذا كتابي إلى من حبه أذاب جسمي ومزق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري وتحيرت أمري
وأقلقني الشوق والبعاد وأجفاني الصبر والرقاد ولازمني الحزن والسهاد وبرح بي الوجد
والغرام وحلول الضنى والسقام فالروح تفديك وإن كان قتل الصب يرضيك والله يبقيك ومن
كل سوء يقيك، ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:
حكم الزمان بأننـي
عـاشـق يا من محاسنه كبدر يشـرق
حزت الفصاحة والملاحة
كلها وعليك من دون البرية رونق
ولقد رضيت بأن تكون
معذبي فعسى علي بنظرة تتصـدق
من مات فيك صبابة
فله الهنا لا خير فيمن لا يحب ويعشق
ثم كتبت أيضاً هذه الأبيات:
إليك أسعد أشكو من
لهـيب جـوى فارحم متيمة بالشوق تـلـتـهـب
إلى متى وأيادي الوجد
تلعـب بـي والعشق والفكر والتسهيد
والنصـب
طوراً ببحر وطوراً
أشتكي لهـبـاً في مهجتي إن ذا يا
منيتيت عجـب
يا لائمي خل لومي
والتكمس هربـاً من الهوى فدموع العين
تنسـكـب
كم صحت وجداً من
الهجران واحربا فلم يفدني بذاك الـويل
والـحـرب
أمرضتني بصدود لست
أحـمـلـه أنت الطبيب فاسعفني بمـا
يجـب
يا عاذلي كف عن عذلي
مـحـاذرة كيلا يصيبك من داء الهوى
عطـب
ث
يا من إليه المشتكى
والمـفـزع أنت المعد لكل مـا يتـوقـع
ما لي سوى قرعي
لبابك حـيلة ولئن وددت فأي بـاب
أقـرع
يا من خزائن فضله
في قول كن أمنن فإن الخير عندك أجمـع
فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى وضمه إلى صدره وأنشد هذين البيتين:
يا من أياديه
عندي غير واحدة ومن مواهبه تنمو من
العدد
ما نابني
من زماني قط نائبة إلا وجدتك فيها
آخذا بـيدي
ثم قال الأمجد للخازندار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني
قبل أخي الأسعد لعل نار قلبي تخمد ولا تدعها تتوقد، فبكى الأسعد وقال: ما يقتل قبل
إلا أنا، فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتنقك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة
واحدة، فلما اعتنقا الاثنان وجهاً لوجه التزما ببعضهما، وشدهما الخازندار وربطهما بالحبال
وهو يبكي، ثم جرد سيفه وقال: والله يا سيدي أنه يعز علي قتلكما فهل لكما من حاجة فأقضيها
أو وصية فأنفذها أورسالة فأبلغها؟ فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني
أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق لأجل أن تقع علي الضربة أولاً فإذا فرغت
من قتلنا ووصلت إلى الملك وقال لك: ماسمعت منهما قبل موتهما فقل له: إن ولديك يقرآنك
السلام ويقولان لك أنك لا تعلم هل هما بريئان أو مذنبان وقد قتلتهما وما تحققت منهما
وما نظرت في حالهم ثم أنشد هذين البيتين:
إن النساء
شياطين خلقن لـنـا نعوذ بالله من
كيد الشياطـين
فهن أصل البليات
التي ظهرت بين البرية في الدنيا وفي
الدين
ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين، وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة السابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن الأمجد قال للخازندار: ما نريد منك أن تبلغه إلا هذين البيتين اللذين سمعتهما وأسألك
بالله أن تطول بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الأخرين ثم بكى بكاءً شديداً
وجعل يقول:
في الـذاهـبـين
الأولـين من الملوك لنا بـصـائر
كم قد مضى
في ذا الطريق من الأكابر والأصـاغـر
فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديداً حتى بل لحيته،
وأما الأسعد فإنه تغرغرت عيناه بالعبرات وأنشد هذه الأبيات:
الدهر يفجع بعد العـين
بـالأثـر فما البكاء على الأشباح
والصـور
فما الليالي أقال الله
عـثـرتـنـا من الليالي وخانتهـا
يد الـغـدر
فقد أضمرت كيدها لابن
الزبير وما رعت ليأذنه بالبيت والـحـجـر
وليتها إذ ندت عمـراً
بـخـارجة فدت علياً بمن شاءت
من البشـر
ثم خضب خده بدمعه المرار وأنشد هذه الأشعار:
إن الليالي والأيام
قد طـبـعـت على الخداع وفيها المكر
والحيل
سراب كل نياب عندهـا
شـئت وهول كل ظلال عندها كحـل
ذبني إلى الدهر
فليكره سجيتـه ذنب الحسام إذ ما أحجم
البطـل
ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
يا طالب الدنيا
الـدنـيا إنـهـا شرك الردى أو قرارة
الأكدار
دار متى أضحكت
في يومهـا أبكت غداً تباً لـهـا مـن
دار
غاراته لا تنقضي
وأسـيرهـا لا يفتدي بجلائل الأخـطـار
كم مزده بغروره
حتـى غـدا متفردا متجاوز الـمـقـدار
ث
و أما ما كان من أمر الأمجد فإنه لما طلع عليه النهار وارتفعت الشمس ولم
يعد إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء جرى له؟ فبينما
هو يتفكر إذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر فإنهم يشنقونه في وسط النهار فلما سمع
الأمجد ذلك بكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي وانا الذي
قتلتها والله لا كان هذا أبداً، ثم خرج من القاعة وقفلها وشق في وسط المدينة حتى أتى
إلى بهادر، ووقف قدام الوالي وقال له: يا سيدي لا تقتل بهادر فإنه بريء والله ما قتلها
إلا أنا فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه
من الأمجد فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أنت قتلت الصبية؟ قال: نعم، فقال له الملك:
احك لي ما سبب قتلك إياها وأصدقني ن قال له: أيها الملك أنه جرى لي حديث عجيب وأمر
غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم حكى للملك حديثه وأخبره
بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب الملك من ذلك غاية العجب، وقال: إني
قد علمت أنك معذور ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيراً؟ فقال له: سمعاً وطاعة، وخلع
عليه الملك وعلى بهادر خلعاً سنية وأعطاه داراً حسنة وحشماً وأنعم عليه بجميع ما يحتاج
إليه ورتب له الرواتب والجرايات وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد فجلس الأمجد في رتبة
الوزارة وحكم وعدل وعزل وأخذ وأعطى وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد
فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق فلم يسمع له بخبر ولم يقع له على أثر. هذا
ما كان من أمر الأمجد. و أما ما كان من أمر الأسعد فإن المجوس ما زالوا يعاقبونه بالليل
والنهار وفي العشي والأبكار مدة سنة كاملة حتى قرب عيد المجوس وهيأ له مركباً. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن بهرام المجوسي جهز مركباً للسفر، ثم حط الأسعد في صندوق وأقفله عليه ونقله إلى المركب
وسافروا ولم يزالوا مسافرين أياماً وليالي وكل يومين يخرج الأسعد ويطعمه قليلاً من
الزاد ويسقيه قليلاً من الماء إلى أن قربوا من جبل النار فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر
حتى تاه المركب عن الطريق وسلكوا طريقاً غير طريقهم ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ
البحر ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة
مرجانة فقال الريس لبهرام: يا سيدي إننا تهنا عن الطريق ولا بد لنا من دخول هذه المدينة
لأجل الراحة وبعد ذلك يفعل الله ما يشلء. فقال له بهرام: ما رأيت والذي تراه افعله
فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا ماذا يكون جوابنا؟ فقال له بهرام: أنا
عندي هذا المسلم الذي معنا فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا إذا رأته الملكة تظن أنه
مملوك، فأقول لها إني جلاب مماليك، أبيع وأشتري فيهم وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم
ولم يبق غير هذا المملوك فقال له الريس ك هذا كلام مليح، ثم إنهم وصلوا إلى المدينة
وأرخوا القلوع ودقوا المراسي، وإذا بالملكة وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها
ووقفت على المركب ونادت على الريس فطلع عندها وقبل الأرض بين يديها. فقالت له: أي شيء
في مركبك هذه ومن معك؟ فقال لها: يا ملكة الزمان معي رجل تاجر يبيع المماليك فقالت:
علي به، وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماش وراءه في صفة مملوك فلما وصل إليهم بهرام
قبل الأرض بين يديها فقالت له: ما شأنك؟ فقال لها: أنا تاجر رقيق فنظرت إلى الأسعد
فحن قلبها عليه فقالت: أتعرف الكتابة؟قال: نعم فناولته دواة وقلماً وقرطاساً وقالت
له: اكتب شيئاً حتى أراه فكتب هذي البيتين:
ما حيلة العبد
والأقدار جـارية عليه في مكل حال إيها الرائي
ألقاه في اليم
مكتوفاً وقال لـه إياك إياك أن تبتل بـالـمـاء
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد
أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجهوا إلى بيت بهرام
ونهبوه وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها وحدث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب
وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان فزاد الأمجد في إكرامها ثم حكى الأمجد للأسعد جميع
ما جرى له مع الصبية وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيراً وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد
من فرقة أخيه، ثم إن السلطان أحضر المجوسي وأمر بضرب عنقه فقال بهرام: أيها الملك العظيم
هل صممت على قتلي؟ قال: نعم، فقال بهرام: اصبرعلي أيها الملك قليلاً، ثم أطرق برأسه
إلى الأرض وبعد ذلك رفع رأسه وتشهد وأسلم على يد السلطان ففرحوا بإسلامه ثم حكى الأمجد
والأسعد ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزوا للسفر وأنا أسافر بكما، ففرحا بذلك
وبإسلامه وبكيا بكاءً شديداً فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما
اجتمع نعمة ونعم فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم؟